في زمن تتسابق فيه العواصم الكبرى لإثبات تفوقها التقني والبيئي، تبرز مدن صغيرة قد لا تظهر على خرائط الابتكار العالمية لكنها تعلن عن نفسها كمراكز جديدة للتجريب والإبداع والتغيير، إنها المدن التي لا تضجّ بالمواصلات ولا تختنق بالأبراج العالية، لكنها تنبض بأفكار كبيرة وتحمل في هدوئها ثورة ذكية صامتة.
في النرويج، تقود مدينة تروندهايم جهودًا ضخمة في تطوير الطاقة البحرية، بينما تحوّلت مدينة أروفيت في الهند إلى مجتمع بيئي مستقل بالكامل لا يخضع لنظام حكومة تقليدي، أما في إستونيا فقد أصبحت تالين نموذجًا للحكومة الرقمية الشاملة رغم صغر مساحتها وعدد سكانها.
هذه النماذج تشير إلى تحوّل عميق في فهمنا للابتكار، إذ لم يعد حكرًا على المراكز الكبرى، بل بات ممكنًا أينما وُجد الخيال والمجتمع المتعاون والدعم المناسب.
العالم العربي ليس استثناءً، فمدينة توزر جنوب تونس بصحرائها الهادئة تقود مشاريع للطاقة الشمسية والسياحة البيئية إلى جانب حاضنات أعمال تدعم شباب الريف، أما صلالة في عُمان فشهدت تحوّلًا نحو الزراعة الذكية باستخدام تقنيات الاستشعار وتحليل البيانات، وفي سوسة المغربية تنتشر مبادرات تعليم رقمي تعتمد على الطاقة المتجددة لخدمة أطفال الأرياف، ورغم التحديات، تؤكد هذه المدن أن الابتكار العربي لا يحتاج إلى أبراج زجاجية، بل إلى إرادة حقيقية وبيئة تشجّع على الفعل.
المدن الصغيرة تنجح بفضل المرونة الإدارية التي تسمح لها باتخاذ قرارات سريعة وتنفيذها بكفاءة، كما أن قوة المجتمع المحلي وعلاقاته المتينة تسهّل انطلاق المبادرات الجماعية، إضافة إلى كونها أرضًا خصبة للتجريب حيث تقل القيود وتكثر الفرص للإبداع والابتكار، ولم يعد التحوّل الرقمي يتطلب بنية ضخمة لتحقيق تأثير ملموس، فالتقنيات الذكية أصبحت متاحة للجميع
هذه المدن تعلمنا درسًا بسيطًا أن الذكاء ليس في الحجم؛ بل في الفكرة وليس في المركز في الزاوية التي لم يلتفت إليها أحد بعد، وربما حان الوقت لنغير بوصلتنا في البحث عن التقدّم، فقد تكون المدينة القادمة التي ستحل أزمة الطاقة أو التعليم أو المياه ليست على خارطة المدن الكبرى، بل في هامش نظن أنه بعيد