كان العالم عشية صيف عام 1914 يقف على شفير هاوية، يتبادل نظرات مشحونة بالتوتر وصراعات مكتومة، حتى هوى في تلك الهاوية معلنًا ولادة إعصار دموي اجتاح الأخضر واليابس: إنها الحرب العالمية الأولى، التي كانت كريح عاتية لا تميز بين غصن يانع وجذع بالٍ، بل تقتلع كل ما يعترض طريقها بوحشية.
لقد كان اغتيال الأرشيدوق النمساوي فرانز فرديناند الشرارة التي أشعلت فتيل برميل بارود مكدس بالتحالفات والعداوات المتراكمة، فتحولت أوروبا التي كانت أشبه بساحة شطرنج سياسية معقدة إلى ميدان قتال واسع يعج بدخان المدافع وأنهار الدماء.
اصطف الحلفاء (بريطانيا، فرنسا، روسيا) في جانب، والقوى المركزية (ألمانيا، النمسا-المجر، الدولة العثمانية) في الجانب الآخر، وكان كل طرف كالمقامر في نزال مصيري، غير مكترث بأعداد الجنود الذين يتساقطون كأوراق الخريف، بل مركزًا بصره على تحريك بيادقه نحو وهم النصر.
أما الخنادق التي امتدت على الجبهات الغربية فكانت كقبور جماعية مفتوحة تبتلع الأحياء، عاش الجنود فيها وكأنهم أسرى في ليل سرمدي تحاصرهم أصوات القذائف كزئير وحوش مفترسة، ورائحة البارود الخانقة التي استوطنت أنفاسهم.
استمر هذا الإعصار الدموي أربع سنوات عجاف (1914-1918)، حاصدًا أرواح ما يزيد عن سبعة عشر مليون إنسان، وكأن الموت أقام مأدبة سوداء على موائد الأمم، تغيّر وجه العالم كما تتغير ملامح إنسان أصابته فاجعة عظيمة؛ تفككت إمبراطوريات عريقة كقصور من الرمال وسقطت عروش كأوراق شجر ذابلة وتبدلت خرائط القارة العجوز وكأنها لوحة فنية عبث بها الرسام.
وجاءت معاهدة فرساي عام 1919 أشبه بضمادة واهنة وضعت على جرح غائر لا يزال ينزف، أعلنت هذه المعاهدة نهايةً مؤقتة للإعصار لكن آثاره بقيت كوشم أبدي محفور على جبين التاريخ يُذكرنا دائمًا بمدى الهشاشة التي يمكن أن تنزلق إليها الحضارات عندما تستعر نيران الكراهية والصراع.